علوم سياسيةقراءات في كتب

قراءة في كتاب: أوراق من زمن السياسة؛ اليوسفي كما عشناه

لكل من: محمد حفيظ وأحمد بوز

عبد الرحيم بودلال: باحث في علم الاجتماع

  1. ملخص

صدر عن الباحثين محمد حفيظ وأحمد بوز كتاباً مهماً في مجال المذكرات السياسية، عن دار الفاصلة للنشر سنة 2021- طنجة المغرب. يقع الكتاب في 477 صفحة بالقطع الوسط، بالتقديم والاستهلال والفهرس. يحتوي إحدى عشر فصلاً أو ورقة، بالإضافة إلى الملاحق. وهو من تقديم الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي.

وردت الورقة الأولى في الكتاب بعنوان: عن الخلافة المفاجئة. والورقة الثانية؛ ملف شائك. والثالثة؛ “كان” الذهاب والإياب. ثم؛ “حب” ينتهي في المحكمة. ثم؛ السياسة في الإعلام. ثم؛ الدستور الذي لا نريد. ثم؛ “الطريق غير المستقيم” نحو التناوب. ثم؛ “التناوب” الذي لم تصنعه صناديق الاقتراع. ثم؛ مؤتمر اليوسفي. ثم؛ نهاية قبل الأوان. وفي الورقة الأخيرة؛ جنازة عن بعد.  

يعالج الكتاب فترة مهمة من تاريخ العمل السياسي المغربي، من خلال تقديم قراءة من داخل أحد أكبر الأحزاب الوطنية المعارضة لسياسات الملك الحسن الثاني، وهو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي ساهم في تأسيسه كبار الشهداء والمناضلين من أمثال بنبركة وعمر بنجلون. حزب عاش أكثر من أربع عقود في المعارضة المستميتة ليتسنى له بعد ذلك ممارسة السياسة من داخل الحكومة، لكنه فشل في تطبيقه مشروعه السياسي ونقل المغرب إلى مصاف الأنظمة الديمقراطية. يسلط الكتاب الضوء على طريقة إدارة اليوسفي للحزب وعلاقته بالملكية وعلاقاته بالتنظيمات الموازية وطبيعة الديمقراطية الداخلية وتدبير الاختلاف، وعلاقته بالإعلام وحرية التعبير.  

  • مقدمة

إن الكتاب هو “أوراق من زمن السياسة” في وقت كان للسياسة معنى، وكانت المعارضة قوية تعارض السياسات الملكية وليست معارضة شكلية. هي فترة تعتبر من أزهى فترات ممارسة السياسة في المغرب بما هي صراع بين ملكية نافذة وأحزاب وطنية لها مشاريع سياسية مختلفة. عكس ما نعيشه اليوم من ضعف للأحزاب وكل الوساطات الاجتماعية، فأصبحت السياسة تمارس من طرف جهة واحدة بعيداً عن منطق الصراع والتفاوض والمراقبة.

إلا أنه وإن كانت الأحزاب حينها قوية وموحدة فإنها فشلت في تحقيق الانتقال الديمقراطي بسبب سوء تدبيرها أو تقديرها للموقف السياسي، مما يستدعي على الأجيال الصاعدة إعادة قراءة التاريخ السياسي قراءة نقدية وإعادة النظر في العقائد السياسية التي كانت تكنها النخب للملكية، لأنها ببساطة أخفقت في ممارسة السياسية وكرست مزيداً من الانتكاسات، وكل ما كانت تعتقد به لم يتحقق ولم يؤدي لأي تغيير. لا يتعلق الموضوع بما كتبه واتربوري حول “الانقسامية الجديدة” للنخب المغربية وضعفها أمام مكر وخداع الملكية، ولا يتعلق الموضوع بما كتبه عبد الله حمودي من كون النسق السياسي المغربي نسق مغلق يصعب اختراقه، مما أنتج بنية سلطوية ثابتة. ولا يتعلق الموضوع بوجود تواطئ غير معلن بين الملك والنخب من أجل ضمان استقرار الملكية وتمرير كرسي العرش بشكل سلس؛ بل إن المعتقدات السياسية للنخب وموقفها من الملكية يجب أن يخضع لمراجعات جذرية، وأن يتم تقييمها وفق نظريات علمية معاصرة من أجل تجاوز أعطاب الماضي والمساعدة على تنشئة سياسية مختلفة. من ذلك مراجعة مفهوم “التناول التوافقي”، حيث جاء على لسان الباحثين؛ أن “التناوب الديمقراطي كلمة كانت مغرية للجميع في حين لم يكن هناك من نظرية تقول بالتناوب الديمقراطي”.

  • مذكرات السياسيين المغاربة

عادة ما لا يكتب السياسيون المغاربة، وإذا ما كتبوا-مثل اليوسفي- فإنه لا يقولون أشياءً كثيرة، ولا يضيفون للحقل السياسي معلومات مهمة، يتحدثون في أمور عامة يعرفها كل المغاربة. لا يمكن لمذكرة اليوسفي أن تكون كذلك وهو لم يتحدث عن النقط الرمادية في مسيرته السياسية؛ مثل توضيح بداية “زمن التناوب” وكواليس التخطيط له وما أقسما عليه هو والحسن الثاني في الخفاء، وعن رسالة الفقيه البصري التي تُورط بعض قيادات الحزب في الانقلابات التي تعرض لها الحسن الثاني فترة السبعينان من القرن الماضي. لهذا يأتي كتاب “أوراق من زمن السياسة؛ اليوسفي كما عشناه” ليملأ جزءاً كبيراً من هذا الفراغ في التاريخ السياسي المغربي، ويبطل بعض الادعاءات التي وردت في مذكرات سياسية لشخصيات قريبة من القصر.وذلك من أجل تصحيح مسار السياسة المغربية والوقوف على الإخفاقات الكثيرة التي مرت بها مشاركة اليوسفي ورفاقه، كما يعيد النظر في العقيدة السياسية التي تشبعت بها النخب مدة طويلة ولم تؤدي لأي انتقال ديمقراطي.

من بين المذكرات المهمة في المجال السياسي المغربي ما كتب عبد الهادي بوطالب “نصف قرن من السياسة“، وعبد الواحد الراضي “المغرب الذي عشته“، وما كتب المفكر محمد عابد الجابري بـ”في غمار السياسة“، وما يكتب عبد الله العروي حول رؤية المؤرخ لعصره في سلسلة “خواطر الصباح“.

يرى بعض المختصين أن المذكرات هي جنس أدبي قائم بذاته مستقل عن باقي الحقول الأدبية والعلمية، وأنه تخصص له مناهجه الخاصة. إلا أن كتاب محمد حفيظ وأحمد بوز أقرب إلى بحث أمبيريقي في العلوم الاجتماعية، منه إلى كتاب في الأدب، لأنهما اعتمدا على مناهج علمية مُحكمة. فوجود الباحثين في منظمات الحزب لسنوات طويلة، واحتكاكهم بالقيادات الكبيرة وحضورهم المكثف لأنشطة الحزب، يعتبر بمثابة الملاحظة بالمشاركة التي تعتمدها الأنثروبولوجيا. هو المنهج الاثنوغرافي الذي يعتمد على المكوث مدة طويلة في مجتمع الدراسة من أجل توثيق الحياة الاجتماعية للمجموعة المدروسة بصورة دقيقة وواضحة. بالإضافة إلى اعتمادهم على الوثائق الرسمية للحزب من قوانين داخلية وبيانات ومقالات صحفية وتصريحات سياسية. كل ذلك جعلهم يقدمون عملاً مهماً حول الكتابة السياسية التاريخية. لقد مكث عبد الله حمودي أكثر من سنتين وسط الأطلس الكبير والمتوسط ليكتب كتابه الشهير “الشيخ والمريد“، ومكث حسن شفيق ثلاث سنوات من أجل تأليف كتابه “سيدي شامهروش الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير“.

يعد الباحثان عضوين في الحزب في فترة عبد الرحمن اليوسفي، كانت لهما وظائف ومهام محلية ووطنية، وكانا أيضاً قياديين في شبيبة الاتحادية التي كانت توازي عمل الحزب وأنشطته، وهي مصدر الأطر والكفاءات المطلوبة. كما اشتغلاَ في العمل الصحافي داخل جريدة “النشرة” التي كانت تصدر عن الشبيبة ثم جريدة “الصحيفة” الأسبوعية ثم اليومية، لهذا جاءت روايتهم على صيغة “اليوسفي كما عشناه”. لقد وفرت لهم التجربة الصحفية بأن يكونا على اطلاع واسع بتفاصيل واخبار مهمة داخل الحزب، ومتتبعين لكل صراعاته. كما كانا قريبين من القيادات الكبرى، إما من خلال الأنشطة الطلابية التي كانا يساهمان فيها أو من خلال موقعهما كإعلاميين ضمن هيئات الحزب. فتوثيقهم للأحداث واطلاعهم على التفاصيل الدقيقة جعلتهم يسلطان الضوء على مناطق شملها الغموض في تاريخ الحزب وعموم المرحلة السياسية. كما أنهما يتصفان بالموضوعية في الكتابة لأنه ليست لديهما رهانات سياسية حالية ولا أي تحيزات بعد أفول الحزب وتراجعه، ولم يعد لهم من أنشطة سياسية وحزبية يمارسونها غير الكتابة الأكاديمية.

سنركز في هذه القراءة-بالإضافة إلى ظروف تولي اليوسفي للحزب والطريقة التي تم بها ترأس أول حكومة للتناوب؛ على فترات مهمة من تاريخ العمل السياسي المغربي، فترتان عليهما قتامة كبيرة في الأوساط السياسية والبحثية، وهي انشقاق نقابة الأموي عن الحزب وتولي محمد اليازغي وإدريس لشكر لرئاسة الحزب بعد اليوسفي، ثم علاقة اليوسفي بالإعلام وحرية الصحافة. كما سنقوم بقراءة الكتاب على ضوء ما يسمى بـ”الاختيار الديمقراطي” الذي نهجه الحزب وعموم “المسلسل الديمقراطي” الذي انخرط فيه المغرب.

  • قيادة اليوسفي لحزب بنبركة وبوعبيد

نشأ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو ما كان يسمى آنذاك بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959؛ على ضوء مشروع سياسي كبير تحت شعار “أي مجتمع نريد بناءه لمرحلة ما بعد الاستقلال”، وذلك ضمن توجه تقدمي يختلف عن غريمه حزب الاستقلال المحافظ. شكل منذ بداية تأسيسه معارضة قوية للمليكة التنفيذية في مقاطعته لدستور 1962 الذي أعطى للملك صلاحيات مطلقة. حينها بدأ أعضاء الحزب يخضعون للمضايقات من طرف نظام الملك الحسن الثاني، لقد تعرضوا لحملة من الاعتقالات الواسعة التي مست 5000 مناضلاً في سنة 1964، لقد صدرت في بعضهم أحكاماً بالإعدام مثل عمر بنجلون والفقيه البصري، وبالحبس الموقوف التنفيذ في حق عبد الرحمان اليوسفي وآخرين. ثم جاءت الانتفاضة الكبرى للطلبة والتلاميذ المتشبعين بالفكر الاشتراكي وأسرهم، في مارس 1965. تمت مواجهتهم بالعنف المادي من طرف الجيش، أسفر ذلك عن سقوط ما يفوق 600 شهيد في مدينة الدار البيضاء لوحدها. خلفت هذه الانتفاضة سخطاً شعبياً كبيراً واحتقاناً واسعاً في المغرب، فتح على إثرها الحسن الثاني بعض نوافذ الحوار مع عبد الرحيم بوعبيد، نتج عنه إطلاق سراح عدد من المعتقلين والعفو عن الكثير منهم.

لتتوقف كل قنوات التواصل بعدها لتعود المواجهات بين الحزب والنظام في أكتوبر من نفس سنة 1965، حين تم اختطاف الشهيد المهدي بنبركة. دخل المغرب على إثرها مرحلة أخرى من القمع والاضطهاد، منها توقيف صحافة الحزب والتضييق على عمله السياسي، حيث أعلن الملك الحسن الثاني من نفس السنة حالة الاستثناء وحل البرلمان، ليتفرد بالحكم لوحده.

أما عبد الرحيم بوعبيد فهو شخصية لها تاريخها السياسي والنضالي الطويل؛ لقد شارك في مفاوضات إكس ليبان التي تمت بين الحركة الوطنية المغربية والسلطات الفرنسية خلال الفترة الممتدة ما بين 20  و30 غشت 1955، للاتفاق على شروط خروج فرنسا من المغرب، كان دوره حضور الاجتماعات ثم التواصل مع السلطان محمد الخامس واخباره بالمستجدات، فقد كان في كل مرة يرجع إليه في قصره من أجل أن يخبره بمستوى المفاوضات بين الحركة الوطنية وفرنسا. كما كان أصغر شاب يشارك في توقيع وثيقة الاستقلال. وفي 24 دجنبر 1958 سيشارك عبد الرحيم بوعبيد في أول حكومة تم تشكيلها بعد الاستقلال برئاسة عبد الله إبراهيم، بمنصب وزير الاقتصاد الوطني والمالية.

في ظل هذه الحكومة سيتم اتخاذ قرارات سياسة مهمة والقيام بأعمال اقتصادية كثيرة، من بينها فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي وتحويل البنك المخزني إلى بنك المغرب وإنشاء صندوق الإيداع والتدبير، وتأسيس البنك المغربي للتجارة الخارجية والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي والمكتب الوطني للري والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومكتب الأبحاث والمساهمات الصناعية، وتم الاتفاق مع الإيطاليين لبناء مصنع تكرير البيترول “سمير”، كما تم صدور ظهير شريف أعلن عن تأسيس الدرهم كعملة وطنية غير قابلة للتحويل. وغيره من القرارات التي مكنت لتحرير الاقتصاد المغربي والسياسات العمومية من التبعية لفرنسا.

قال عبد الرحيم بوعبيد عن هذه القرارات؛ “إن عهد الاستقلال يتطلب منا أن نتحرر من التبعية وألا ننساق وراء عجلة نظام كانت قراراته المهتمة باقتصادنا يتم اتخاذها خارج المغرب ودونما مراعاة لظروف المغرب النوعية، ولا يمكن لأي تعاون دولي صحيح أن يزدهر ويكتسي مدلوله الحقيقي إلا إذا كان كل من يساهم فيه، يبذل جهوده بوسائله الخاصة قبل كل شيء، وهذا شرط أساسي لقيام علاقات الاحترام المتبادل بين الدول المستقلة. لهذا نحن الآن في سياق سياسة اقتصادية ونقدية مستقلة”.

لهذا-وكما يشير الباحثان منذ البداية-أن خلافة اليوسفي لرجل سياسي من حجم عبد الرحيم بوعبيد ستكون مهمة صعبة. بالإضافة لما سبق لقد قاد بوعبيد الحزب زمن الظلم والاضطهاد إبان سنوات الرصاص واستطاع الصمود والثبات على نفس المبادئ، لقد سجن مرتين في حياته، كما شاهد رفاقه يقتلون ويسجنون وصبر على ذلك، بينما قاد اليوسفي الحزب لمدة 11 سنة فقط في سياق “الانتقال الديمقراطي” من 1992 إلى 2003، قاد خلالها حكومة “التناوب التوافقي” التي راهن عليها المغاربة لتحقيق الانتقال الديمقراطي لمدة أربع سنوات وخمسة أشهر، من 1998 الى 2002، ليعتزل بعد ذلك السياسة بصفة نهائية سنة 2003.

حسب الباحثين لم يكن اليوسفي ملماً بالأمور التنظيمية كما كان سلفه بوعبيد، أو كما كانت مواصفات غريمه اليازغي، بل جل أوقاته قضاها في المهجر منظماً لأنشطة الحزب ومشاركاً في العلاقات الخارجية، مما يطرح سؤال: هل كان للنظام السياسي المغربي رغبة في أن يقود اليوسفي حكومة التناوب بدل قيادات أخرى داخلية؟ هل وُجد نوع من التنسيق المسبق بين الملك الحسن الثاني واليوسفي ليتم فرض اليوسفي على رفاقه بقوة داخل الحزب؟

 كان من المفروض أن يكون اليازغي خلفا لعبد الرحيم بوعبيد، لإلمامه بكل تفاصيل الحزب، ولقربه من كل التنظيمات الموازية ولعلاقاته الكثيرة. لكن اليازغي “السلطوي” قد فشل أيضاً في تدبير شؤون الحزب بعد اعتزال اليوسفي، كما انقلب عليه كل الذين كانوا قريبين منه، منهم ادريس لشكر الأمين العام الحالي للحزب. لقد تسبب اليازغي أيضاً في مزيد من التفكك داخل الحزب ووسع من الهوة بينه وبين التنظيمات الموازية، أكثر مما فعل اليوسفي زمن “التناوب التوافقي”، ربما لأنه ترأس الحزب في مرحلة الأفول والتفكك أو هو لضعف قدراته القيادية. أيضاً وبحسب الباحثين أن بوعبيد هو من أراد اليوسفي خلفا له في الحزب، وقبِل اليازغي بذلك على مضض.

أيضاً إن اليوسفي بسب رأسماله الرمزي القليل وكاريزميته الضعيفة داخل الحزب التي لا تصل إلى رتبة عبد الرحيم بوعبيد؛ سيضعه في مواجهة مع قيادات حزبية ونقابية كثيرة، من ذلك؛ اليازغي ونوبير الأموي ومحمد الحبيب وعبد المجيد بوزوبع ومحمد منصور والساسي، وآخرين كثر كانوا يطمحون لترأس الحزب أو على الأقل يرون مكانتهم أفضل منه، كما أن أغلب هؤلاء كان لهم تواصل وقرب كبير بباقي المناضلين وكل منظمات الحزب، بينما كان اليوسفي منفياً في فرنسا.

لهذا يخلص الباحثين وهما يتناولان علاقة اليوسفي بالقصر الملكي بعيداً عن التحيزات والمواقف المسبقة؛ “يصعب الحديث بشكل مباشر أن القصر أراد اليوسفي خلفاً لبوعبيد، أو فعلا كان هناك اتفاق مسبق من أجل تجاوز الاحتباس السياسي والاقتصادي، عكس الاتفاقات الأخرى التي كان يبرمها القصر مع الأحزاب سواء الإدارية أو الوطنية، حيث كان القصر هو من يعين الأمناء أو هو من يقترحهم ولو بطريقة غير مباشرة، مثلمها مع فعل مع عباس الفاسي خلفاً لبوستة، برر أعضاء الحزب ذلك بقولهم “سيدنا بغاه””.

 لقد كان الاتحاد الاشتراكي دائماً ما يحتفظ بقدر من الحرية والاستقلالية عن مراكز السلطة، لهذا بعيداً عن النوايا وما تم الاتفاق عليه في الكواليس، فإنه يجب محاكمة اليوسفي من خلال السياسات العامة التي كان يتخذها وهو رئيس الحكومة، ومن خلال تسيير الإداري والسياسي للحزب، ثم علاقته بالصحافة وحرية التعبير وحقوق الانسان وحقوق المرأة، وعلاقته بالملك الشاب، وهل كان يمارس صلاحياتها كما ينص عليها الدستور وبالطريقة التي تم انتخابه لها، أم كان يتلقى التعليمان مِن مَن هم “فوق”؟ وهل كانت له مواقف شجاعة في دعم المشاريع التنموية وتكريس قيم الديمقراطية؟ أم أنه تسبب في انتكاسات كثيرة لحقوق الانسان وحرية التعبير وحرية الصحافة وعجز مع حكومته في تحقيق الانتقال الديمقراطي؟

  • علاقة اليوسفي برفاقه وبالإعلام

من مناطق الظل التي يجب تسليط الضوء عليها، والتي خصص لها الباحثان عدداً لا بأس به من الصفحات، هي علاقة الحزب بالنقابة، والتي يحيط بها التباسات كثيرة وتضارب في الآراء واختلاف زوايا النظر. يعتبر نوبير الأموي (1935-2021) أول ورقة سياسية صعبة سيواجهها اليوسفي، فالأموي شغل منصب الكاتب العام للنقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل CDT، تحمل المسؤولية منذ مؤتمرها التأسيسي الذي انعقد بالدار البيضاء يومي 25 و26 نونبر 1978، إلى أن توفي. كان لها دور كبير في كبرى المحطات النضالية، كل هذا سيعطيه حضور وكاريزما قوية داخل النقابة وأيضاً الحزب، قد ينافس بهما غريمه اليوسفي.

 أيضاً فإن الأموي دائماً ما كان محط اختلاف بين الباحثين، والمناضلين أيضاً؛ في مواقفه المتباينة من النظام وعلاقته الملتبسة بالحزب. عُرف عنه مواقفه الجريئة والقوية، وكونه دائما ما كان في قلب الصراعات السياسية، خصوصاً محطتين نضاليتين كبرى في تاريخ المغرب. تحت قيادته أعلنت الكونفدرالية بقيادة في 20 يونيو 1981 عن إضراب عام، والذي تسبب في احداث دامية بالمغرب بعد تدخل الجيش في الدار البيضاء لتفريق المتظاهرين. تم اعتقال قياديين كثر حينها، على رأسهم نوبير الأموي الذي قضى سنتين بالسجن دون محاكمة. في ظل ولايته أعلنت الكونفدرالية إضراباً عاماً 1990 بتحالف مع الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والذي أسفر أيضاً عن أحداث دامية ومواجهات كبيرة بين المتظاهرين والسلطة بمدينة فاس. مما سيجعل من الأموي مصدر إزعاج للدولة والحكومة، كما أصبح رقماً مهماً في العمل النقابي والسياسي يضرب له ألف حساب.

تم اعتقال نوبير الأموي أيضاً في مارس 1992 وذلك بعد تولي اليوسفي لرئاسة الحزب مباشرة، إثر دعوى رفعتها الحكومة ضده تتهمه فيها بالقذف، “لأنه وصف أعضاءها في استجواب أجرته معه جريدة “إلباييس” الإسبانية 11 مارس 1992 بأنهم “منغانطيس”” )ص 65(، بمعنى لصوص. اعتبر هيئة الدفاع المحاكمة سياسية لأن الحكومة تابعت الأموي لوحده دون أن تفعل الشيء نفسه مع الجريدة التي نشرت الخبر. انتهى ملف الأموي بالحكم عليه بأربع عشر شهراً بسجن الزاكي بسلا، قبل أن يصدر في حقه عفو ملكي.

إلا أن الأموي وكما يحكي أحمد بوز كان معروفاً بمواقفه ومبادئه المفاجئة والغامضة والمتناقضة، “قد يفاجئك بأي قرار وفي أي وقت”، بذلك كان يصعب مجاراته وضبطه، أو حتى الاطمئنان لما قد يصدر منه، بل وحتى تفسير ما يمكن أن يقدم عليه. وفق هذا وذاك، كان كثير الشك حتى في بعض المحيطين به، “ولا سيما “أصحاب الرباط”، كما كان يسميهم هو”. )ص 87(. وكانت أكثر مواقفه غرابة استقباله لإدريس البصري والاحتفاء بحضوره في مؤتمر الكونفدرالية في مدينة العيون سنة 1999.

يذكران أيضاً أنه عندما تم استجوابه حول وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، خصوصاً وأن مرحلة الحسن الثاني عرفت بسنوات الرصاص، كان الأموي يقول كلاما ونقيضه، ينتقد حكم الملك الراحل وفي نفس الوقت يظهر كثيراً من الحب والود اتجاهه، كان يتلقى المكالمات ويرد على مخاطبيه بآهات تعبر عن ألم شديد، “لكن الذي لم ننسَه من ذلك اللقاء هو تلك العبارة، التي ظل يتوجه بها إلينا، بين مكالمة وأخرى: “مَاتْ باكُمْ.. مَاتْ باكُمْ”. )ص 79(

أيضاً من الأمور المفاجئة انسحاب الأموي من المؤتمر السادس الذي عقده الحزب في نهاية مارس 2001 وبدون مبرر، بذلك سيقطع علاقته مع الحزب بشكل واضح وستنشق النقابة عن الحزب. أيضًا في سنة 2002، حضر أحمد بوز ندوة صحفية عقدها الأموي يوم 21 فبراير 2002 على خلفية مواجهات دامية وقعت بين أعضاء الكونفدرالية بأكادير، من المحسوبين عليه والمحسوبين على اليازغي، الذين سيشكلون فيما بعد الفيديرالية الديمقراطية للشغل FDT. حيث “جاوب الصحافة بقسوة ووبخ فاطمة بوترخة عن وكالة المغرب العربي، فقط لأنها طرحت عليه سؤالاً لم يعجبه “شكون صفطك لهنا”” )ص 80(. وفي اجتماع آخر للأموي مع صحافة الحزب والذي دام أربع ساعات، “كان كله عبارة عن أسئلة من جانبه هو، حول “الصحيفة” و”لوجورنال” وبوبكر الجامعي والعلاقة مع مولاي هشام والصحافة المستقلة في المغرب، لينتهي اللقاء بدون استجواب” )ص81(.

يحمل الباحثان مسؤولية انشقاق النقابة عن الحزب ليس فقط لنوبير الأموي الذي كان مزاجياً وفوضوياً، والذي كان يداهن السلطة، بل أيضا لعبد الرحمن اليوسفي الذي لم يستطع احتواء الوضع. حيث عرفت تجربة التناوب السياسي تجاذبات كبيرة بين العمل النقابي “المستقل” والعمل الحزبي “المندمج”، لا يتعلق الوضع بمواقف نوبير الأموي لوحده، بل أيضا بمواقف عبد الرحيم اليوسفي الذي كان يحاول إنجاح تجربة “التناوب” ولو على حساب الحزب وتنظيماته الموازية، أوقف مجموعة من الجرائد الداخلية للحزب وعزل الصحافيين المستقلين، وحاول بكل الوسائل ارغام النقابة بدعم قرارات الحكومة داخل مجلس المستشارين.

أيضا من بين الشخصيات التي يجب تسليط الضوء عليها والتي كان لها دور كبير بعد سقوط حكومة التناوب، هو ادريس لشكر في علاقته باليوسفي. فمعرفة التاريخ السياسي والتنظيمي لإدريس لشكر يساعد على فهمدوره الحزبي والسياسي الحالي. يحكي الباحثان أنهما لا ينكران الماضي الأسود لإدريس لشكر مع الحزب والشبيبة، في أسلوب العمل وطريقة تعاطيه للقضايا الداخلية وحرصه الدائم على التركيز على الأشخاص والتحريض على المناضلين الاتحاديين، “لهذا لم نكن نرتاح لأسلوبه ونطمئن إلى شخصه. )ص 152-(153

كما يحكي أحمد البوز “أن لشكر بمجرد أن يلتقيك يرى فيك مشروع مناضل يجب استقطابه وتوظيفه ضد الآخرين”. يحكي أنه هو وصديقه حسن طارق بينما كانا جالسين في المقهى دخل لشكر، ولما رآهم قدم إليهم وجلس إلى جانبه رغم معرفتهم المحدودة به، فعلاقتهم به لا تتعدى اللقاءات الرسمية التي كان ينظمها الحزب. فبدأ يتكلم عن قادة الشبيبة وعن السياسي تحديداً واصفا إياهم ب “الكومسمول” وهو الاسم الذي كان يطلق على قيادة شبيبة الاتحاد السوفياتي، والتي كانت تحيل على كبر سن قيادات الشبيبة.

لهذا دائما ما كان يرفض الشباب الاتحادي حضور لشكر داخل الأنشطة وفي اللقاءات، رغم أنه كان يكتري شقة قريبة من المركب الثقافي بالمعاريف؛ المكان الذي كانت تجري به أشغال مؤتمر والذي كانت ابنته تحضر مجرياته بصفتها عضوة داخل الشبيبة الاتحادية. يعتبر ادريس لشكر من تيار اليازغي داخل الحزب، المجموعة التي كانت تهادن السلطة والتي دائما ما يكون لها قرارات محافظة. وداخلياً دائما ما كانت لهم مناورات وسيناريوهات مختلفة عن تلك التي كان يسطرها اليوسفي، وشاركوا في تدبير خطط كثيرة في الكواليس لإفشال المؤتمرات واللقاءات. لهذا بعد سقوط اليازغي كان أول من سينقلب عليه هو لشكر نفسه الذي أسس لتجربة جديدة للحزب بالاندماج الكلي داخل السلطة واضعاف ما تبقى من مكونات الحزب.

أيضاً من الجوانب المظلمة في تجربة عبد الرحمن اليوسفي والتي تقدم صورة واضحة عن تراجع الحقوق والحريات في فترته، هي علاقته بالإعلام والصحافة، حيث كان يضيق على الصحافة سواء المستقلة أو صحافة الحزب، بدعوى أنها تشوش على عمل الحكومة. كما قام بإعادة هيكلة الصحافة الداخلية للحزب من أجل أن توافق تطلعاته السياسية. كما منع نشرة عن الفنان السنونسي، ومنع طبع أحد أعداد جريدة الأحداث المغربية، كما دخل في صراع مع إعلام الشبيبة.

غضب اليوسفي من حوار أجرته الصحافة الحزبية مع الساسي في 7 غشت 1999 بعد تولي محمد السادس مقاليد الحكم، كتب الساسي يدعو فيه الجالس الجديد على العرش “إلى تكريس نظام ملكية برلمانية حقيقية وإعطاء مضمون حداثي للملكية، والتخلي عن بعض الطقوس وبعض التقاليد التي ليست لها فائدة محققة… مثل تقبيل اليد وطوابير الانتظار ونظام الحجب ونظام الحجابات المبالغ فيه، ويقول فيه: إن المودة تفرض أن يكون هناك الصدق في التعامل وأن نقول للملك الصراحة، فمن يحب ملكه عليه أن يقول له الحقيقة كاملة”. )ص 232(. حيث رد عليه اليوسفي: “لدينا تقاليد عن الموت، وكان على صاحبك أن ينتظر مرور أربعين يوماً”. )ص 234( أيضاً أقدم على منع أسبوعية “لوجورنال” كونها تحرض الملك الجديد على الحكومة والحزب، وكونها تنسف الثقة بينه وبين الملك”، حيث نشرت رسالة للفقيه البصري التي تورط بعض قيادات الحزب في الانقلابات التي تمت على الملك الحسن الثاني.

كل هذا العداء للصحافة وحرية التعبير من طرف اليوسفي هو انقلاب على مبادئه الأولى، وهو الذي اعتقل على خلفية مقال ورد في الجريدة التي كان يترأسها سنة 1959 الذي قال فيه: “إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك فإنها مسؤولة أيضاً أمام الرأي العام”.

  • دور الكتلة الديمقراطية في تحقيق الانتقال الديمقراطي

يرى غرامشي-حسب محمد عابد الجابري-أن الكتلة التاريخية هي تلك الكتلة التي تضع التعارضات والخلافات الأيديولوجية جانباً من أجل أن تتصدى لما هو أكبر وأهم، بذلك نظر غرامشي للتحالف بين الشيوعيين والرأسماليين في إيطاليا من أجل التصدي للفاشية. وعلى نفس المنوال دعا المفكر محمد عابد الجابري إلى تحقيق كتلة تاريخية تجمع بين اليمين واليسار تواجه الملكية المطلقة وتسمح بتحقيق انتقال ديمقراطي في المغرب.

جاء في مداخلة شارك بها الجابري في ندوة عقدتها الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي بالدار البيضاء حول موضوع “مستقبل اليسار بالمغرب” في 30 يناير 1993، الحديث عن ضرورة بلورة تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية، كتلة تضم جميع القوى الفاعلية في المجتمع، والتي من مصلحتها التغيير لتحقيق الأهداف الوطنية. حيث لم يعد في استطاعة اليسار لوحده تحقيق الانتقال الديمقراطي بسبب سقوط الاتحاد السوفياتي وبسبب عوامل داخلية كثيرة، منها وجود الدين الإسلامي الذي لايزال هو مصدر العقيدة والسلوك لدى الشعوب العربية، ثم الملكية التي لازالت تحظى بالشرعية، ثم وجود اقتصاد هش لا يسمح بإنتاج طبقة عمالية واعية تستطيع تحقيق التغير الاجتماعي.

قد وُجد تقارب كبير بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال عبر مراحل كثيرة من أجل التأسيس لدخول حكومي ديمقراطي، تم اتخاذ مجموعة من المبادرات المشتركة سنتي 1990 و1991، من ذلك التنسيق على المستوى البرلماني، والذي أدى الى تقديم ملتمس الرقابة ضد الحكومة سنة 1990، والتقارب الذي حصل على الواجهة النقابية بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل القريبة من الاتحاد الاشتراكي، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب القريبة من حزب الاستقلال، والذي توج بالإضراب العام في 14 دجنبر 1990، نتج عنه أحداث دامية في عدد من المدن المغربية، في مقدمتها فاس. وأيضا التنظيم المشترك لمسيرة 3 فبراير 1991 المنددة بهجوم القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على العراق. 

كانت تجربة التناوب ستكون قوية وناجحة لو طبقت بالطريقة التي أرادتها “الكتلة الديمقراطية” وليس بالشكل الذي فرضه الملك. ففي 17 ماي 1993 سيتم تأسيس “الكتلة الديمقراطية”، وهو التحالف الذي كان مقدمة لتوحيد الكثير من المواقف بين الأحزاب المكونة له، خاصة خلال مفاوضات المشاركة في انتخابات شتنبر 1993، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من تنقل أحزاب المعارضة إلى قيادة تجربة حكومية، “لولا الاختلاف الذي وقع حول وضعية ادريس البصري في الحكومة، واعتراض بوستة على مشاركته فيها”. )الجابري، في غمار السياسية، ج 3، ص52(.

اعتبرت الكتلة أن البلاغ الملكي رفع البصري إلى مرتبة المقدسات الوطنية، وهو ما يمثل-“في نظرها- خطئً سياسيًا فادحًا”. بينما كان غرض الحسن الثاني أن يكون البصري حلقة وصل ووساطة بين الطرفين، وهو ما عبر عنه بقول: “خليوه بيني وبينكم”، بمعنى “اتركوه بيني وبينكم”. لكن بوستة فهم أن الأمور الحسنة سيتم نسبتها إلى الملك، بينما الأمور السيئة والسياسات الفاشلة والاختلالات والسلطوية يتم نسبتها إلى البصري. بذلك تبقى الملكية بعيدة عن الصراع وهي دائما ما تمسك بزمام المبادرة وتقوم بالتحكيم وتنأى عن مستنقع السياسة. هو ما قاله بوست للملك: “غادي نبقاو انا وياه شد لي نقطع ليك”، بمعنى “سيتم هدر الوقت في الصراع الفارغ بدل العمل على حل مشاكل الوطن”، فقال الملك: الأفضل أن تتصارعوا مع البصري على أن تتصارعوا معي شخصياً، فرد بوسة” “حاشا.. نعماس”.

في انتخابات 1997 سيعترض بوستة على تزوير الانتخابات ويحتج على معاقبة النظام لهم لرفضهم خوض غمار تجربة “التناوب”، لهذا استقال من الحزب. لقد أقر أحد مُؤلفي هذا الكتاب وهو محمد حفيظ، الذي خاض انتخابات 1997 في دائرة مبروكة بالدار البيضاء-حيث أُعلن عنه فائزاً-بتزوير الانتخابات من طرف السلطة لصالحه، ورفض هذا العمل المكشوف، وأكد أن التزوير لم يكن لفائدته فحسب، بل كان لصالح 14 مرشحاً اتحادياً قبلوا أن يحصلوا على مقاعد مزورة داخل مجلس النواب.

كان هذا العمل بداية لتفكيك الكتلة؛ اعتبر الاستقلاليون أنهم بذلك عوقبوا بسبب موقف بوستة من “تجربة التناوب” حيث لم يحصلوا إلا على 32 مقعدًا، بين ابتع اليوسفي لسانه وهو يرى النظام يعطيه مقاعد ليست له، يهيئه كحزب حصد أغلبية الأصوات من أجل الدخول في حكومة التناوب. لقد أوضح الباحثان أن اليوسفي كان يعلم بتزوير الانتخابات لكنه سكت لأن ذلك كان في صالحه، وقد احتج سنة 1993 على ذلك.

يعلق الباحثان أن إقدام اليوسفي على قبول التناوب بهذه بالصيغة “بدا غريباً للكثيرين، حيث عُرف عن الرجل أنه كان من أصلب المعارضين للديمقراطية الصورية، وأنه شديد الحذر من الدخول، غير المرتب بإحكام وغير محسوب العواقب في تسويات سياسية، وأنه متشدد بخصوص شروط المشاركة في الحكومة، خوفًا من أن تتحول هذه المشاركة إلى مجرد وسيلة لمنح السلطوية نفساً تحس بأنها في حاجة إليه”.

  • خاتمة:

في تقييم لتجربة التناوب وتاريخ العمل السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يمكن القول إنها تجربة فريدة من نوعها، إلا أنها باءت بالفشل. قد نقرأها من زاوية الحزب ونخبه السياسية والمثقفة فنقول إنهم كانوا ضعفاء ولم يستطيعوا تأسيس الكتلة التاريخية لمواجهة النظام، وقد نقرؤها من جانب النظام من كون الملكية التنفيذية قوية ومتقدمة في الممارسة السياسية والتخطيط، مقابل المعارضة المتفككة. إن تجربة التناول التوافقي كانت تطبخ على جمر هادئ منذ زمن بعيد، لا يتعلق الموضوع بإخفاق اليوسفي وحرصه على إرضاء من هم “فوق”، لكن أيضاً بتواطئ بعض النخب الأخرى منها الأموي وادريس لشكر واليازغي.

حسب الجابري أن المسلسل الديمقراطي في المغرب بدأ قبل المؤتمر الاستثنائي للحزب سنة 1975، حين التقى الملك الحسن الثاني مع عبد الرحيم بوعبيد، من أجل القيام بإجماع وطني بين الملكية وأحزاب المعارضة لمواجهة محاولات مطامح اسبانيا في الصحراء. أيضاً لتجاوز مرحلة الانقلابات السياسية وسنوات الرصاص التي عاشتها المعارضة. كان هدف انخراط الحزب في المسلسل الديمقراطي هو تعزيز المشاركة السياسية وتقوية حس المواطنة وأنه يمكن أن يتم ذلك إلا في إطار انتخابات نزيهة، هو ما صرح به عبد الرحيم بوعبيد للإذاعة الفرنسية في أكتوبر 1976: “إننا على عتبة مغرب جديد، لقد تم الشروع في المسلسل الديمقراطي ويجب احترام قواعد اللعبة”.

لينتهي هذا المسلسل بالنهاية البيولوجية للملك الحسن الثاني؛ لقد تم استدراج اليوسفي لتجربة هي منذ البداية فاشلة. فمع تولي الملك الجديد لمقاليد الحكم وتمكنه من زمام السلطة وترسيخه للحكم الجديد بدأت الأوضاع تتغير بالانقلاب على “تجربة التناوب” بالتدريج، حيث فشل مشروع خطة ادماج المرأة بإخراج الإسلاميين للشارع فأعطيت ورقة التحكيم للملك من أجل فك النزاع، لم يستطع اليوسفي حماية الخطة والوزير المكلف بها رغم أنه تمثل توجهات الحزب التقدمية. كما أعلن الملك عن احداث مراكز جهوية للاستثمار سحبت من الحكومة اختصاصاتها. ثم عودة الجنرالات السابقين للسلطة وتوسع دور الشرطة والأمن، ليتم إغلاق قوس “التناوب” في الأخير باسقاط حكومة اليوسفي وتعويضها بالتكنوقراط. لقد فشلت حكومة اليوسفي في ترسيخ قيم الديمقراطية وتوسيع الحريات وضمان بعض الحقوق، كما فشلت في الاقتصاد وتحقيق التنمية.

لقد انتهت علاقة اليوسفي بالقصر بالصورة التي صورها الباحثان في آخر الكتاب؛ بقيت العلاقة عائلية بينه وبين الملك، يستدعيه الى القصر أحياناً يلاقيه مع بعض الأصدقاء والزعماء ويشاركه بعض الأفراح، كما زاره في المستشفى مرتين وهو مريض سنة 2006. حيث دور المعارض المغربي لا يجب أن يتجاوز حدود الخطاطة التي رسمها المخزن وأن لا يخرج عن تقاليد وأعراف دار الملك.

انتهت تجربة اليوسفي “كما عشناه” بالصورة التي يريدها القصر لكل مناضل وسياسي مستقل، يتم استدعاؤهم وقت الحاجة وعندما تشتد الصعاب، ثم يتم التخلي عنهم بعد ذلك دون عزاء، في مشهد كاريكاتيري يختزل صورة السياسة في المغرب. يستخدم النظام السياسي كل الوسائل التي في حوزته من وعود الانفتاح واستقطاب للمعارضة، وأحياناً التحلي “بالصبر الاستراتيجي” في وقت الأزمات، إلى حين احكام السيطرة مرة أخرى ومن قبضة من حديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى