كيف يتم تدريس علم الاجتماع في المغرب؟

لقد اقتصر الأستاذة في شعب علم الاجتماع في الجامعات المغربية عل تدريس النظريات الكلاسيكية، خصوصاً المدرسة الفرنسية المؤسسة لعلم الاجتماع، والتي في الغالب تأثرت بالمنهج الوضعي بالطريقة التي أنتجته الفلسفة وطوره أوجيست كونط، مستفيدين من التطور والنجاح الذي عرفته مناهج العلوم الطبيعية في فهم الظاهرة الفيزيائية والتحكم فيها.
يهدف هذا المقال إلى التعريف بالمنهج الوضعي وأهم المؤسسين له وأصله الابسيتمولوجي، وإلى أي حد يمكن له في المغرب أن يساهم في التغير الاجتماعي؟
إن الوضعانية تعني الارتكان إلى الواقع والقبول به والتسليم بكل ظواهره، على أنها أمور طبيعية، هو نوع من التصالح مع الواقع أنه من صنع الانسان هو من وضعه وليس من صنع اللاهوت والميتافيزقيا، هي القراءة التي قدمها هيجل لسيرورة التاريخ.
هو نوع من من الأنسة التي انتقلت من التمركز حول الميتافيزيقا إلى الاهتمام بالإنسان وبمجتمعه، هي تلك الأنا في الكوجيتو الشهير “أنا أفكر إذن أنا موجود”، محولًا ديكارت مركز الاهتمام من الوجود الخارجي إلى الذات العارفة ، من “الماهية التي تحدد الأشياء؟” إلى “ما الذي يمكنني التأكد من وجوده؟ هي العقل العلمي في فكر كانط في وضع الوجود في دائرة التجربة البشرية، إذ لا يمكن للإنسان أن يدرك “الشيء في ذاته” بل يمكن فقط إدراك الظواهر كما تظهر لنا عبر مقولات الفهم الحسية والعقلية. هي لدى كارل بوبر العلم الذي يتميز عن العلم الزائف أو عن الميتافيزيقا من خلال منهجه التجريبي، الذي هو أساسه المنهج الاستقرائي الذي يقوم على الملاحظة والتجربة. حيث النظرية قابلة للاختبار بينما الميتافيزيقا لا تقبل ذلك. هي لدى دفيد هيوم ارتباط النتيجة بالسبب التي هي أساس المعرفة العلمية، هي الوحيدة التي تتجاوز الانطباعات والتوقعات النفسية.
لكن الذي قام بإنتاج السوسيولوجيا الوضعية بالاستفادة من كل ما سبق هو الفرنسي أوجيست كونط، بتبني منهج وضعي محض، فإن كان ديكارت لم يتخلص من الميتافيزيقا نهائيا وإن كان كانط جعل الميتافيزيقا فكرة يمكن الإيمان بها في المجال الخاص وأن العقل العملي الأداتي هو ما يجب على العلوم الاجتماعية الاعتماد عليه، فإن كونط أنتج علماً وضعياً جديداً.
لقد عاش أوجيست كونط في فترة التوترات الكبرى التي عاشتها الدولة الفرنسية بين سيطرة الثوار وتراجع الملكية من جهة وبروز الملكية وتراجع الحرية من جهة ثاتية، فقد عاش جمهوريات فرنسية كثيرة. لهذا كان هاجسه الأساسي هو انتاج علم اجتماعي يقوم على استصلاح المجتمع وتحقيق الاستقرار.
لهذا جعل من علم الاجتماع آخر مراحل البشرية في تبني المنهج الوضعي، على أساس أن البشرية انتقلت من اللاهوت إلى الميتافيزيقا إلى العلم الوضعي القائم على العقل الخالص. ثم نظر لما يسمى بالستاتيكا والديناميكا، على أن المجتمع يعيش بما يحتوي من مؤسسات وبنى حالة من الاستقرار والثبات ثم هو في جانب آخر يعيش نوعا من الديناميكا التي تسمح له بالتغير البطيء في خط مستقيم يتقدم به إلى الأمام. ثم جاء تلميذه إميل دوركايم فأنتج علما مكتملا من الوضعانية وهو علم الاجتماع بإنتاج منهجا علميا جديدا.
يرى البعض من هؤلاء أن الظواهر الاجتماعية أيا كانت هي ظواهر صحية للمجتمع، لأنها موجودة بحكم الواقع لهذا يجب الاعتراف بها، كما أنها وإن كانت ظواهر سلبية أو أمراض اجتماعية فإنها تحقق نوعا من التوازن والاستقرار، وذلك في استعارة للمنظومة الإيكولوجية التي تقوم على الأدوار المختلفة المتكاملة. لكن هؤلاء لا يطرحون سؤال التغيير ولا كيف يمكن الخروج من باثولوجيا المجتمع ولا كيفية الخروج من العنف والاستبداد والسلطوية، بهذا اصبحوا يدعمون الوضع القائم والنظام السياسي الموجود دون إدراك منهم.
إن كلاً من أوجيست كونط وإميل دوركايم قد خاضا حرباً هوجاء ضد كل العلوم الأخرى، وذلك من أجل انتاج علم جديد مستقل عن باقي العلوم. في مجال الفلسفة هاجما كلا من دافيد هيوم وديكارت وكانت وهيجل، واعتبروا العقل لوحده عاجزاً عن انتاج المعرفة والوصول إلى الحقيقة إذا لم يعتمد على البحث الميداني المبني على الملاحظة والتجربة. وفي علم النفس هاجما فرويد كثيرا، واعتبروا الظواهر النفسية ما هي إلا نتاج للظواهر الاجتماعية، وأن المجتمع سابق على الوجود.
ولإعطاء قيمة كبرى للواقعة والظاهرة الاجتماعية فإن دوركايم جعل من المجتمع أكبر من مجموع أجزائه، بل جعل من العقل الجمعي عقلاً جامعاً لكل العقول، هو عقل متعالٍ يضم كل الذاكرة الجماعية وكل منتجات المجتمع السيكولوجية. هو عقل موضوعي ناتج عن دمج كل السيكولوجيات الفردية بعضها البعض، فهو كائن نفسي جديد. بذلك يتميز الشعور الجمعي عن الشعور الفردي كلياً، بل إن خواصه مختلفة تماماً عن سيكولوجيا الأفراد مجموعين، لأنه أكبر من مجموع أجزائه.
لهذا فإن كان الفلسفة الوضعية تخلصت من كل القيم والمبادئ والثوابت السابقة من أجل أن تنتج علماً جديدا يمتاز بالموضوعية ومحايداً عن الثقافة الشعبية، فإن دوركايم أنتج مفهوما ميتافيزيقا متعالياً عن المجتمع، وهبه كل شيء وجعله مركز الكون وأصل الوجود، أوكل إليه تدبير المجتمع وتأويل ظواهره.
وإن المفاهيم التي أنتجها علم الاجتماع الوضعي مثل الاندماج والاستقرار والنظام هي أيضاً أحكام قيمة عندما يتعلق الموضوع بتطبيقاتها النهائية، هي بتعبير ماكس نماذج مثالية حيث تؤسس للفكر والتفكير وتتأسس عليه. إن أول من فرق بين القيمة والوصف وهو دفيد هيوم، حيث يرى أن أحكام القيمة لا تعبر إلا عن مشاعر المتحدث ومواقفه، ولا تعكس أي واقعة موضوعية، ولا يمكن النظر إليها على أنها قضايا منطقية يمكن الحكم بصدقها أو كذبها.
بودلال عبد الرحيم